إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 24 فبراير 2020

كتّاب من نفطة : المرحوم الميداني بن صالح


الالتزام في شعر الميداني بن صالح : قصيدة "اعتذار" نموذجا*
خالد العقبي 


مدخل:
الالتزام في الفن عموما مقولة إشكاليّة مثيرة للجدل و الالتزام  في الأدب خاصّة مقولة أكثر إشكاليّة  لأن الأدب بطبعه فعل رمزي قابل للتأويل          و الالتزام فيما هو حمّال أوجه ضرب من ضروب العبث كما يرى البعض فما الالتزام في الأدب؟
الالتزام لغة حين يقال لزم الشيء أي ثبت و دام  و لزم  بيته لأي لم يفارقه     و تعلق به  و التزمه أي اعتنقه  و يقال التزم الشيء أي لزمه من غير أن يفارقه ، التزم العمل  و المال أي أوجبه على نفسه.
و الالتزام كما ورد في معجم مصطلحات الأدب : هو اعتبار الكاتب فنّه وسيلة لخدمة فكرة معيّنة عن الإنسان ، لا مجرّد تسلية غرضها الوحيد المتعة       و الجمال.
و قد تعددت تعريفات الالتزام  بتعدد مشارب الكتّاب و النقّاد حيث يعرّفه الكاتب الأمريكي نورمان مالر بأنّه "نوع من  التعاقد أو الارتباط بشيء خارج الذات" و عرّفه الشاعر الأسكتلندي  "هيومكاد يارميد"   بأنّه" الالتزام السياسي و الجهاد في سبيله       و تسخير الأدب للدعوة له" و حصره الناقد العربي المصري محمد غنيمي هلال في الشعر فقال: "و يراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكرة و الشعور و الفنّ في القضايا الوطنية و الإنسانية        و فيما يعانون من آلام و ما  يبنون من آمال"
و قد تجلت مظاهر  الالتزام بهذا المعنى الأخير له في مدرسة الواقعية الاشتراكية (التي هي حسب موسوعة وكيبيديا): "واحد من تيّارات الواقعية التي ظهرت رسميا في الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن العشرين...و قد ارتبط أكثر بالإيديولوجيا و البروباقندا الحزبيّة خاصّة بعد إقرار الواقعية الإشتراكية من طرف الحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1932"

القضيّة و لغتها:
هذا مدخل مختصر عن الخيار الذي التزم به المرحوم الميداني بن صالح في شعره حيث كان التزامه الإيديولوجي و الحزبي(الخط البعثي من التيّار القومي العربي)  ضابطا لتوجهاته الشعبيّة ، العمّاليّة ، العروبيّة الوحدوية  ، الوطنيّة ، الإشتراكيّة عامّة و هو الالتزام الذي كان وفيا لمنابته الاجتماعيّة (الفلاّحيّة /الصوفيّة) ، غير أن  دراسة نصوص الميداني بن صالح تستوجب الاستغناء عن البحث في تأثيرات  الظروف الاجتماعية  لضمان تقييم موضوعي لمتانة تلك النصوص و قياس مدى شعريتها انطلاقا من حرقة أسئلة لحظة المكاشفة الشعرية كما سمّاها  الأستاذ محمد لطفي اليوسفي في قوله متسائلا:

" ما هي المدارات التي يرتادها الشاعر فيمثل الشعر في حضرته؟ من أين ينبثق ذلك الحدث المؤسس؟ و كيف تولد الرؤيا ؟  هذه أسئلة لا سبيل إلى الإجابة عنها بالرجوع إلى ما  نعرفه عن حياة الشاعر أو بالنظر في كتاباته النثرية و إخباره عن الحالات التي يتملّكه فيها هوس الخلق. ذلك أن المكاشفة لحظة متميّزة يرتادها الشاعر آن  ميلاد النص الشعري ثم يخرج منها. و يعجز عن الإخبار عن ماهيتها لأنه غادر رحابها. فلا يبقى منها بين أيدينا غير نصّه: عصارة كيانه"
و من اللحظات الفارقة في وجدان الميدان بن صالح التي ألحّت على خطابه الشعري  و تجلّت في لحظة كشفه ، لحظة حضور قضيّة فلسطين أو مأساتها  و هي تتربّع ضمن مضلّعات عقيدته السياسية في مقام المحور، قضيّة فلسطين  قضيّة العرب الأولى و جرح الأمّة النازف التي عايش المرحوم مختلف  مراحل نكبتها من التقسيم سنة 1947 إلى اجتياح بيروت سنة 1982 و تصفية المقاومة.
قصيدة "اعتذار": بيان شعري بامتياز:
ألقى المرحوم الميداني بن صالح قصيدة اعتذار ضمن فعاليات مهرجان الشعر الحادي عشر بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة في مارس 1973 فكانت بحق قراءة استشرافية للواقع العربي قبيل حرب أكتوبر 1973  فلم تكن صدفة و لا عرافة بقدر ما كانت تجسيما إبداعيا لمعنى الالتزام  الحقيقي للشاعر: الاستشراف، القراءة الدقيقة للوجدان العام، التبشير...و قد طبعت القصيدة منفردة في كتيّب صغير من 21 صفحة و جاءت في 15  مقطعا شعريا متفاوت الحجم و الكثافة استهلّها الشاعر بعبارة "نلتقي" و التزم بهاته العبارة إلى غاية المقطع الخامس ثم استترت العبارة لتعوّضها عبارة "عندما" إلى غاية المقطع الثالث عشر  و هذا الالتزام اللغوي يحمل أكثر من دلالة لعلّ أبرزها استبطان الدعوة للتلاقي و الوحدة و الوعي بالاشتراك في المصير  و كأنه يستحضر مشهد التقاء العقلاء في الحيّ أو العشيرة أو العائلة عندما تحلّ المصائب و النوازل الكبرى. و وضع لهذا الالتقاء شروطا هي في الحقيقة عناصر البيان الشعري الذي رفعه لضمان خروج آمن من الوضع العربي المأزوم.

جدول مضامين الالتزام

عدد المقطع
مضمون الالتزام في المقطع
01
الفاعلون في  الوضع العربي:الاستعمار/الحاكم/الجيوش/الثوار/الشعب...
02
مضمون اللقاء:المقاربة الشعرية في ظل وضع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال
03
شرط اللقاء:قطع الفكر مع التجارة و السمسرة و قطع الشعر مع الزيف و التزييف
04
شرط الاستنارة و التنوير الفكري
05
شرط تحوّل الثورة إلى ثورة ثقافية بناءة و القطع مع فكر الخرافة
06
شرط القطع مع انتهازية المثقف و الكاتب و تملقه الحكام
07
شرط القطع مع بهرج اللغة و شكلانيتها الخادعة
08
شرط  تمرّد المثقف على الحاكم و سلطته البوليسية
09
شرط واقعية الشعر و ارتباطه بالمعذبين
10
شرط حرية الشاعر و سلامته من البطش من أجل رأيه
11
شرط القطع مع الدولة الدينية و حكم الإمامة و الكهنوت
12
شرط العدالة الاجتماعية
13
شرط حريّة الفكر و الضمير
14
إمكانية الإلتقاء على أرض فلسطين المحررة
15
شكوى و لوم و تأنيب و تحسّر عن أدوار المثقفين و درجة التزامهم بقضيّتهم القوميّة


هذه تقريبا أهمّ قضايا الالتزام التي ضمّنها الميداني بن صالح قصيدته/بيانه "اعتذار"    و التي جسّدت واحدة من أهم قصائد الالتزام في الشعر التونسي و التي تحيلنا بنيتها الأسلوبية للحديث عن مبحث شرط الشعريّة                 و الجماليّة في الشعر الملتزم عموما من منظور النقد القديم و الحديث.

الميداني بن صالح في ميزان الشعرية:
واجه الشعر الملتزم عموما نقدا لاذعا و طعنا واضحا في شعريته معيبين عليه المباشرة      و فقر التخييل  و غياب البلاغة الكافية  و التكثيف الفنّي  للغة  و الارتباط المعيب بالخطاب السياسي و الدعائي غير أن الشعر بما هو إنجاز فنّي /ذوقي لا يتطلب أيّ شكل من أشكال القولبة  التي تعيق انتشاره بين القراء مهما كان مستوى قدرتهم على فهمه و إلا صار الشعر علما تقريريا يستدعي أحكاما قطعية تحتمل الصحة و الخطأ و تنتفي بذلك  عن الشاعر صفة المبدع لتحل محلها صفة التقني أو الصانع أو النظّام و عليه فإن من يعطي لنفسه صفة الخبير في الشعرية فهو  في الحقيقة  قد أعطى لنفسه صفة الجهل بهذا الفن الذي تأسس مزاجيا بصفة حرّة و تلقائية و عفوية        و لا يعني هذا أن نلغي النقد و التقويم بل إنه    " لا يملك الناقد أن يعمل بغير طاقم من المعايير النقدية ، و لكنه حين يتبنى أيّ معيار ثابت فإنه يكون قد حكم على نفسه بالتقييد: بحيث تراه يرفض كل قصيدة لا تنضوي تحت لواء معاييره الجاهزة". و هذا هو تقريبا  أغلب النقد الذي واجهه شاعرنا ، نقدا أحادي  الرؤية يتجاوز حدود ما يطلب منه كنقد لينقلب إلى انتقاد نابع  من نوازع ذاتية على اعتبار أنّ :
"مزاج الناقد و خلفيته الثقافية  و كذلك  تجربة حياته العامة و بالإجمال شخصيته الفردية هي بعض من جملة الينابيع التي ينبثق منها الطاقم المعياري لدى هذا الناقد أو ذاك. فليس في  الميسور إغفال الشخصي        و الفردي لدى الحكم على النصوص الأدبية"
و إذا كان الميداني بن صالح في عالم الشعر العربي الحديث قد ألزم نفسه بأسلوب  " الشعر الحر" فقد اختار الأسلوب الأكثر انطلاقا و قدرة عل حمل نوازع النفس  و الوجدان العربي الراهن...لقد استجاب بن صالح لإلحاح الكتابة و هاجسها بالأسلوب المناسب و هو عندما كتب     و عبر عن ذلك الإلحاح لم يكن مطالبا بمراعاة الطواقم المعيارية للنقاد أيا كانت تلك المعايير، هو يكتب بما رآه موافقا لدفقاته النفسية و الوجدانية               و الانفعالية في صياغة حديثة تعتمد السطر لا البيت و عيا منه أنّ:
"السطر الشعري مرتبط بالدفقة الشعورية للشاعر يطول بطولها و يقصر بقصرها خلافا للبيت التقليدي الذي يبدو شكلا معدا سلفا و ما على الشاعر إلا أن يمطط مشاعره أو يقلصها لتتلاءم مع ذلك الشكل" و هذا الاختيار للشكل هو من جملة ما يسمو بشعر الميداني بن صالح إلى مستوى "الشعر الجديد"  الذي يعرّفه أدونيس في كتابه "زمن الشعر" على النحو التالي:
"إنّ الشعر الجديد نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم.إنه إحساس شامل بحضورنا و هو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد موضع البحث و التساؤل و هو لذلك يصدر عن حساسية ميتافيزيائية تحس الأشياء إحساسا كشفيا ، الشعر الجديد من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني"
إنّ تنزيلا بسيطا  لهذه التعريفات على أعمال الميداني بن صالح  تؤكّد لنا أن الشاعر  ملتزم إلى حدّ بعيد بحداثة الشعر فمن خلال مضامينه الاحتجاجيّة و التحريضية على الواقع المجتمعي الذي عايشه في بلده تونس في ظل حكم فردي موسوم بالحيف الاجتماعي   و تفسّخ القيم و ضرب الهويّة الوطنية       و القومية  نجد الشاعر قد انحاز إلى معسكر المقاومة الثقافية لهذه الخيارات و الظواهر فساهم  في صياغة  أساليب تعبيريّة تستند إلى ثوابت معرفيّة تحاول الإحاطة و التبصير بهذا الواقع  بمعزل  عن قوانين التقارير      و لغة المباشرة الجافّة فدعّم إلى حدّ بعيد  الإحساس الشامل بضرورة التغيير و من خلال ذلك  صاغ دعوة لإعادة ترتيب المفاهيم              و الظواهر و الأولويات     و هذا كله صادر عمّا أسماه أدونيس  "الحساسية الميتافيزيقيّة"  و هي بالنسبة لشاعرنا الحساسيّة التراثية المستنيرة     و المتجذّرة التي يعتقد الميداني بن صالح  أنها  قاعدة الارتكاز الصلبة  للانطلاق السليم نحو فضاءات  أكثر رحابة و رخاء و استقرارا للإنسان العربي ، نتلمّس ذلك في قصيدته (أحزمة العبور) حينما قال:

فالجماهير ها هنا
قد حمت بالدم الأحمر
أمجاد العروبة
تاريخا و قرآنا
صوامع للعزّ
للإيمان بالأرض
بساتين و ثمار
و نخيلا باسق الطلع شامخا
و سنبلا كموج على السهول تمايل
هو ذا عزّنا
بأرض الجزائر يخضر سليما
زكيّ العطاء
كما كان من أمسنا المجيد
و حرف"الضاد" نبع من الإشعاع
لم ينل من سنا نوره المخصب نائل

هنا تبدو الحساسيّة الميتافيزيقية التي استند إليها بن صالح في دفاعه عن هويّة الجزائر ميتافيزيقية حيّة و فاعلة لأنها تتصل بأبعاد حيويّة في حياة الأمم و الشعوب ألا و هي التاريخ و اللغة و الدّين و بالتالي فقد اكتمل إبداع الشاعر من حيث مركزية الخيارات الرمزيّة لإبداعه و من حيث محاور الاشتباك الظاهرة مع محاور الانعزال و التغريب  رابطا إيّاها مع محاور اشتباك  راهنة و معيشة  مثل الاستغلال و الاستبداد و قمع الحريات    و   الانحرافات الاجتماعية و الأخلاقية و عوائق الوحدة القومية       و هو ما يعزّز موقع شاعرنا ضمن شعراء "الهمّ الجمعي" الذين يقابلهم شعراء الالتهاء بالذات    و الغرق في الفردانية  المقيتة المنادية بالعزلة عن كل ما هو عام                  و جماعي و المتمسّكين بالشكلانية اللغوية الموسومة بالتزيين      و الزخرفة اللفظية الخالية من كل معنى أو قضيّة...
و يعبّر الشاعر عن كل ذلك بوضوح في المقطعين التاسع  و العاشر من قصيدته "اعتذار" ص:13 حيث يقول:

عندما لا يصبح الشعر  غريزي الأحاسيس
خيالا و صور
لا يرى الشرّد ، و الأسلاك، و الأرض...
و آلام البشر
.
.
.
نلتقي لو يصبح الشعر  نداء ثائر اللحن ،
يغنّي للجماهير التي سيقت كقطعان البقر
لتعيش الرفض، و الثورة في وعي إراديّ...
و تحيا دون خوف...و حذر
.
.
.
عندما لا يسجن الشاعر من أجل قصيد و يعلّق
عندما لا يجلد الكاتب  إذ جاء به "الأمن" لبيت "الأمن"
بالسوط الذي يحمله المأمور في كهف المحقق

هذا على مستوى المضامين التي اختارها بن صالح  لشعره مضامين مركّبة تمزج المشرق من الماضي الحضاري التليد بالمستنير و الإنساني و الكوني من القيم الحديثة التي  تتطلّع إليها الشعوب .
أمّا  عن الخيار الأسلوبي و الفنّي و الذي كما أسلفت اخذ حيّزا كبيرا من الجدل  منذ الحديث عن علاقة المبنى بالمعنى أو الشكل بالمضمون في الشعر العربي قديمه          و حديثه فإنّ ما رآه نقّاد بن صالح خللا في نصّه الشعري رآه النقّاد القدامى عيبا عارضا لأنّ المعنى عندهم هو مقياس سلامة البيت      و هذا هو رأي ابن رشيق القيرواني مثلا حين يقول :
و البيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع و سمكه الرواية                        و دعائمه العلم  و بابه الدربة و ساكنه المعنى، و لا خير في بيت غير مسكون.(1)
و يقول أيضا في معرض حديثه عن علاقة اللفظ بالمعنى:
اللفظ جسم و روحه المعنى و ارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه  و يقوى بقوّته ، فإذا سلم المعنى و اختلّ بعض اللفظ كان نقصا للشعر و هجنة عليه...و كذلك إن ضعف المعنى و اختل بعضه كان للّفظ من ذلك حظ وافر(2)
فطبقا لمقاييس ابن رشيق  لا يمكن أن نعيب في شعر الميداني بن صالح ضعف شاعريته أو غرقه في الصور المباشرة طالما أن أسطر قصائده مسكونة بمعان كبيرة في الوقت الذي لا  يحرجنا أن ننبه إلى أن  تناسق المبنى             و المعنى شيء مطلوب  و ضروري حيث أن شعر المرحوم الميداني بن صالح شعر غزير المعاني دسم الأغراض  حارق القضايا  ينتظر أن تحمله أسطرا أكثر متانة و بلاغة و ترميزا  في بحث عن توازن غير مخلّ بطبيعة العلاقة بين الروح و الجسد  فالقصيدة  في بنائها على حدّ قول  إبن رشيق دائما : مثلها مثل خلق الإنسان  من اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر و باينه في صحّة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخوّن محاسنه(أي تنقصها) و تخفي معالم جماله(3)



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


*مداخلة ألقيت ضمن فعاليات الملتقى الثاني لشعراء الواحات بنفطة الذي نظمته جمعية "حلقة نفطة للثقافة و الإبداع" بتاريخ


(1)           و (2) و (3) ابن رشيق القيرواني/ العمدة في صناعة الشعر       و نقده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق