إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 22 فبراير 2020

كتّاب من نفطة : منوّر صمادح


الحسّ الاجتماعي و النقابي في شعر منوّر صمادح*

خالد العقبي
 

منوّر صمادح "الشاعر الكادح"...يمكن لهذه الصفة  أن تتصدّر جميع الصّفات التي جمعها الشاعر الفذّ و المتميّز في سيرته الحافلة (وهي كثيرة)        و التي تجسّدت فيها إرادة الإنسان الحيّ و النّابض بحبّ التحدّي و  الطموح و المبادرة.
ربّما يكون الكدح و حبّ العمل و الانحياز للعمّال والفقراء و المهمّشين هو الوجه الثابت لشاعرنا الكبير  لذلك لا يمكن إغفال حسّه الاجتماعي و النقابي  و انتصاره الصريح والصارم للعمّال و لمنظمتهم الاتحاد العام التونسي للشغل و لزعيمهم الخالد الشهيد فرحات حشّاد الذي يشترك معه ضمنيا في قضيّة عميقة عبّر عنها حشّاد بقولته الشهيرة "أحبّك يا شعب"  و عبّر عنها منوّر صمادح بهذه الأبيات  من قصيدته "عيد الشعوب":
أنا ما حييت عن الهوى أتعالى       و أجيد في الحقّ الصّراح مقالا
من روح هذا الشعب أستوحي الهداية و التقى ،    أستصغر العذّالا
ما زلت أحدو  ركبه ، ألقي عليه           من المحبّة و الإخاء ظلالا
و لسوف أبقى صوته الدّاوي الذي  لا يختشي  أبد الزمان زوالا(1)

و لم يكن وصول الرجلين إلى نفس الموقف من الشعب إلاّ بعد أن  التحما  به
 و ذاقا من نفس الكأس التي كان يذوق منها زمن الاستبداد الاستعماري  البغيض
 حيث عاينا بؤس الناس و خصاصتهم و نهب المستعمر لخيرات البلاد         و مقدّراتها  فيلخّص  منوّر صمادح هذا الوضع بقوله في قصيدة "ثائرون" من ديوان "فجر الحياة" :

فكم نعمة بيـــننا حرّمت                علينا كأنّــا لــــها آنــــــيه
جياع مساكين في أرضنا     و من حقّنا العيشة الراضيه
  

هذا الشعور العميق بالحقّ في كرامة العيش هو الناظم الثابت  لحسّ الشاعر الاجتماعي  فيترجمه في شكل بيانات  احتجاج شعريّة  تكاد تكون هي  ذاتها ما يردّده أصحاب الحق في كلّ الانتفاضات الاجتماعيّة في هذه البلاد من معطّلين     و مهمّشين و مفقّرين و كادحين في شكل صرخات مدوية تعتبر الثورة التونسيّة المجيدة خلاصتها المنطقيّة  و عصارة روحها الأخلاقيّة .
يقول صمادح و كأنّه عاش معنا أحداث هذه الثورة :
ألا إننا ها هنا صارخون        ليسمع أصواتنا النّائمون
و دافـــعنا رغبة لا تعي            و حقّ تجاهله الحاكمون
فهاتوا لنا عملا أو فلا          تلوموا إذا شنّها العاطلون

و كأنّي به يستشرف ثورة المعطّلين و يرسم شعارها و مطالبها على أنها ثورة حتميّة  على الحيف الاجتماعي و الاختلال الطّبقي في مجتمعه على مرّ العصور.
 و ما يميّز حسّ منوّر صمادح الاجتماعي  أيضا هو التقدير المعنوي                           و الأخلاقي للمهمّشين كواحد منهم إذ لا يتكلّم  عنهم مثل السياسي الذي يتخذ من بؤسهم وقودا لشعاراته الشعبويّة و لا مثل الكثير من خطباء المساجد من الذين تنتهي علاقتهم بهم حال انفضاض المصلّين  من حولهم و لا مثل المسؤول الحكومي الذي يصدّع آذانهم وعودا و لا يحقق لهم في الواقع شيئا  إنّما هو معنيّ بقضيّتهم كطرف فيها  و مجنّد لخدمتها  صادق في التعبير  عنها  منحاز لهم  كشريحة فيها من كمال الإنسانية و كرامة  الأخلاق و حسن السريرة  ما لغيرها من الشرائح الاجتماعيّة:
باسمي أنا ...و لقد عرفت من التشرّد شرّه و من الهموم ثقالا
و صحبت  أبناء الشقاء و عشتهم روحا و جسما جائعا بطّالا
فوجـــــدت في تلك الشقاوة رفــــــــــــــــعة و عرفت في بؤسائنا أمثالا
لا باسم من عابوا الفقير لفقره و هو العظيم و قدّسوا الأنذالا

لم يكن منوّر صمادح في وعيه الاجتماعي فوضويا أو طفيليا  بل كان يعي جيّدا  قيمة التنظم العمّالي  و أهميّة التضامن النقابي فعبّر عن ذلك من خلال  دعوته للوحدة العمّاليّة  في قوله في قصيد "عيد الشعوب" :
باسم الذين توحّدوا و تظافروا و تقدّموا ليغيّروا الأحوالا

و يردف ذلك بتمجيد الدّور الوطني و الاجتماعي الرائد للاتحاد العام التونسي للشغل من خلال تمجيد زعاماته و مناضليه حيث يقول:
الله أكبر هو ذا حشّاد أقبل فابشروا و لتنحنوا إجلالا
مازال حيّا  ماثلا ما بينــــــــنا فالموت داهم غادريه ونالا

 و يخلص في نفس القصيد إلى  ذكر القيادة النقابيّة  في شخص الأمين العام أحمد بن صالح وقتها فيقول :
و أراه في الشهم ابن صالح شعلة          و أراه في أعضاده إشعالا
نعم الخليفة  فليدم في سيره..            سنزيده التأييد و الإقبالا

 و في الحقيقة فإنّ منوّر صمادح لم يكن ينتصر  للأشخاص  إلاّ بقدر انتصاره  للفكرة و القيمة التي يمثلونها وهو ما برهن عليه في الجانب السياسي  عندما ناصر  الحبيب بورقيبة في زعامته و نضاله الوطني  و عندما اكتشف  منه  التراجع عن  القيم الوطنية  التحرّريّة بعد الاستقلال  أفصح عن  موقفه المعارض له  كأوضح  و أجرأ ما يكون  الإفصاح:

عهـــــــدي به جدّا  فكان مزاحا               بدأ الضحيّة و انتهى سفّاحا
من حرّر الأجساد  من أصفادها        عقل العقول  و كبّل الأرواحا
كان الســـــجين فصار سجانا لها          يا من ترى سمكا غدا تمساحا
الباب فتّــــــحه الذين استشهدوا          فلـــمن ترى قد سلّم المفتاحا

و يتجلّى  تعلّق المرحوم  منوّر صمادح بالمنظمة العمّاليّة  و دورها الاجتماعي             و الوطني  في دوام إحيائه لذكرى عيد العمّال أو ذكرى اغتيال الشهيد فرحات حشاد  بمقر الاتحاد  مركّزا  على الطابع الفريد و المتميّز  للنضال العمّالي  في تونس و الذي لم يكن  مطلبيا  فقط  بل كان وطنيا تحرريا  بامتياز  حيث عبّر عن ذلك  في قصيدته "الثورة " التي ألقاها  في المقرّ الحالي للاتحاد ببطحاء محمد علي  و قد كان مقرا للبوليس الاستعماري  و ذلك في 23 جوان 1955  فيقول في التذكير بما كانت  عليه دار الاتحاد     و ما أصبحت عليه:
هذه الدّار لـــــــها ماض له            في سجلّ الشعب آلاف الذكر
كانت الجسر الذي أدّى إلى           هوّة البطـــــش شبابا قد عبر
سائلوها كم دموع أســـكبت             في دياجيها و كـــم حق غبر
هكذا كانت فأمـــــست فجأة                 ملجأ الأمّـــة أنــــــثى و ذكر

 و لعلّ من أهمّ علامات تجلّي الحسّ الاجتماعي في شعر  منور صمادح من الناحية الفنيّة  و المعياريّة هو أنّه  لم يفلسف الشعر و لم يجدّد فيه كثيرا أو يأتي بالغريب منه من باب خالف تعرف كما هو  شأن بعض الباحثين عن الأضواء من الشعراء المحدثين بل  لخّص علاقته بالكلمة الشعريّة في عبارات بسيطة ، دالّة    و حاسمة رفعته إلى  مصاف  الشعراء الأفذاذ في وطنه        و خارجه حيث قال:
 حياتنا اليوميّة هي المادّة الأصيلة للأدب و ينبغي أن تكون هي موضع البحث          و على ضوء حاجياتنا الصّغرى نعبّد الطريق إلى غاياتنا الكبرى ،    و بدون هذا لا يحسّ الشعب بأناس يقال لهم شعراء. و في  عدم إحساس الشعب ضياع لرسالة الشعر و تمديد في حياة الفكرة القديمة  الخاطئة  التي لا  ترى الشعر  إلاّ شيئا كماليا كالفواكه و الحلوى... و هذا ما لا يرضاه الجيل الجديد الذي يؤمن  برسالة الشاعر و يقدر مسؤوليته العظمى (من تقديم  ديوانه صراع /ص6)
 و انطلاقا من هذه القناعة التي ترى الشعر ضرورة معرفيّة و أخلاقيّة في مسيرة الشعوب نحو التحرّر و من هذا الإيمان بالدّور الخطير و الضروري للشعراء ارتبط منوّر صمادح في مسيرته الإبداعيّة  بمصدرين للإلهام مكناه من الوصول دون وساطات إلى جماهير  الشعر العريضة  في تونس  و في المغرب العربي عموما و هذين المصدرين هما أوّلا  : الحياة الشعبيّة البسيطة الموسومة بالكدح     و العفويّة  و المرادفة للوطنيّة الصافية الخالية من النوازع النخبويّة المتعالية        و ثانيا  هو التقليديّة الشعريّة  الناهلة من  صفاء العربيّة الفصحى و الشعر الكلاسيكي المتجدّد (النيوكلاسيك)  ذو الإيحاءات  الأصيلة   المفعمة بالاعتزاز بالذات القوميّة في مواجهة نزعتيّ الاستعلاء الاستعماري  و الاستعلاء الطّبقي     و يرفض كلا النزعتين برفضه القطعي للظلم  أيا كان مأتاه حيث يقول في قصيد "صرخة الأحرار" من ديوانه"فجر الحياة" :
يا ظلم زد في البطش و املأ  من ضحاياك الحفر
وارقص على ندب الثكالى  و اليتــــــامى يا أشر
و اسلك سبيل السلب و التجهيل و ازجر كل حر
ما زادنا البــطش الـــمرير سوى التقدّم  و الظفر
إنّا خلـــــــقنا  للكفاح و للجـــــــــــهاد  المستمرّ
فينا العزائم ثابــــــتات لا يساورنا الـــــــــــــخور

لقد كان منوّر صمادح استثناء حقيقيا في  جمعه بين رهافة الحسّ الشعري     و متانة النصّ      و عمق دلالته و بين صدق الأغراض و المواضيع الشعريّة النابعة من معاناته الواقعيّة        و نجاحه الباهر في نحت ذاته و نقلها من الأميّة إلى المعرفة       و من الرتابة  إلى التجدّد  و من الانزواء إلى اللمعان       و الحضور  فجمع بذلك شيئين قلّ أن يجتمعا في شاعر  و هما  مخالطة النّاس في معاناتهم اليوميّة           و ترجمة تلك المعاناة  إلى إبداع شعري غاية في الفصاحة و البلاغة و الشاعريّة
و هذا الجمع بين الواقعي و اليومي  و بين المتعالي و المتسامي النخبوي عبّر عنه شاعرنا  بقوله :
أنا الآن  يا أخي القارئ  العزيز لست صحافيا ، فلنطو تلك الصفحة إلى حين ...        و تعال معي   إلى بلدة البقالطة  و انظر  إلى هذا المزدحم من  الناس .إنّهم  حرفاء معجبون التفوا حولي ليشتروا فطور الصّباح ...أنا الآن فطائري  يقبل عليّ النّاس     و تعجبهم صناعتي و كم يكون ابتهاجهم عظيما عندما تفاجئهم  الصحافة اليوميّة  و الأسبوعيّة بنشر صورتي      و قصائدي فتراهم  لا يكادون يصدّقون أنّهم يقرؤون  في المساء أدب من اشتروا منه  الفطائر في الصباح (من تقديمه  لديوان صراع/ص 13)
لقد غاب منوّر صمادح عن مشهدنا  الشعري طيلة العقود الماضية بفعل فاعل  من مصلحته أن لا يلتحم الاجتماعي بالسياسي  و لا يريد للمثقّف أن يولد من رحم معاناة النّاس أو يلتحم بهم أو ينطق باسمهم  كما لا يريد أن تتردّد صرخة شاعرنا المدوية :

شيئان في بلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي قد خيّــــــــــــــــبا أملي
الصّدق في القول و الإخلاص في العمل

و لعلّ الثّورة التونسيّة التي فجّرها المعدمون قد استحضرت شاعرنا  في خضمّ صراعها المتواصل مع الحيف الاجتماعي  و استمرار التهميش             و البطالة  فيقول داعيا  الشباب تحديدا للثورة  على الظلم الاجتماعي المرتبط بالاستعمار الأجنبي :

غيّروا الوضع و فكّوا  القيد إن كنتم أباة
أيّ عدل يقتل الشعب لكي يرضى الطّغاة
بعضكم يتخم و البــــــعض أمانيه الفتات
فئة ترفل في الــــــــــــخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزّ  و آلاف عراة
لست أرضى ما أتيتم لا ولا ترضى الحياة
غيّروا الوضع و فكــّوا القــيد إن كنتم أباة

و قد كان من المؤمنين بأنّ  مهمّة التغيير نحو العدالة الاجتماعيّة  و التحرّر الطّبقي  من سلطة رأس المال و الإقطاع و كلّ صنوف الاستغلال مهمّة يضطلع بها العمّال أنفسهم   فتراه يحفّزهم على رفض واقع الحيف              و بشاعته فيقول في قصيد عيد الشعوب بنبرة تحريضيّة :
عجبا يجوع بأرضنا خدّامها كي يطعموا  المحتال  و المكسالا
هذا حرام يا بني قــــــومي حـــــــــــــــــرام فانهــــــــضوا  لنحــــــــــطّم الأغلالا

و نراه يستشعر المخاطر الاجتماعيّة للبطالة فينكرها  و ينّدد بها كظاهرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بواقع الظلم  الاجتماعي  و كأنّما هو يتنبّأ بما لهذه الظاهرة  من أثر سلبي على السلم الأهلي مثلها مثل الأمّيّة و المرض فيقول في نبذ هذه الظواهر  مخاطبا حكومة دولة الاستقلال (بعد شهرين من الاستقلال التام ماي 1956) في قصيدته عيد الشعوب :
هيّا أخي نبني الحياة و نرتدي الثوب الـجديد  و نحرق الأسمالا
هيا أخي نفــــــــــــــــــــــــــــــــــــني الجــــــهالة إنها ليل الحـــــــــــياة بأفــــــــــــقنا قد طالا
هيا أخي نسدي إلى المرضى  يدا حسب المريض بكوخه إهمالا
و امنح لجيش العاطلين كرامة و افسح لهم فــي العالمين مجالا
لا عذر بعد اليوم فلنضمن لهم عيــــــــــــــشا كريــــــــما افتحوا الأشغالا
فلربّما ضعــــــــــــــــــــــــف الرجا فيـــــــهم و ثاروا يائســــــــين و أحدثوا الزلزالا

أليس هذا  ذاته ما تخاطب به حكومة ما بعد الثورة ؟؟؟ أليس منوّر صمادح أوّل من قال أنّ مضمون الاستقلال هو كرامة العيش  للمعطّلين ؟؟








 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقال نشر في جريدة "الشعب" بتاريخ 09/02/2013













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق