إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 23 فبراير 2020

كتاب من نفطة: العلامة الشيخ محمد الخضر حسين بمناسبة ذكرى وفاته في مثل هذا الشهر من سنة 1958


بعض ملامح الحسّ التحرّري في سيرة العلاّمة   محمد الخضر حسين.
خالد العقبي
يعتبر الشيخ محمد الخضر حسين المولود بنفطة في 26 جولية 1876                          و المتوفي بالقاهرة في 02 فيفري 1958 واحدا من ألمع الشخصيات الوطنية            و العربية في النصف الأول من القرن العشرين لما حفلت به حياته من أحداث و مآثر تراوحت بين مغالبة الظروف الصعبة في طلب العلم التقليدي و الارتقاء في سلم درجاته المعرفية ذات الطبيعة الدينية و الفقهية في عصره     و مصارعة بطش المستعمر الذي جثم على صدر وطنه    و أمته , فكان مثالا للعالم العامل و المناضل المقاوم حيث ترك إرثا معرفيا و نضاليا تجدر دراسته و الاستفادة منه و لئن كان فكر الرجل و آراءه محل اختلاف و تحفظ لدى البعض لأسباب أغلبها إيديولوجيّة            و ليست بحثية أكاديمية فإنّ نضاله     و مواقفه الوطنيّة و القومية تكاد تكون محلّ إجماع      و هو ما سنحاول أن نبرزه من خلال رصدنا لأهمّ المحطّات التي طبعت فكره المعادي للاستعمار و انخراطه الواعي و المنهجي في مقاومته سياسيا و فكريا ..مما عرّضه لملاحقة السلطات الاستعمارية أينما حلّ طلبا للجوء.
ينتمي الشيخ الخضر حسين من ناحية أمّه إلى عائلة بن عزوز ذات الأصول الجزائريّة حيث كان الحسن بن عزوز البرجي أحد خلفاء الأمير عبد القادر الجزائري على منطقة الزيبان (بسكرة) قبل أن يعزله الأمير سنة 1841و يعيّن مكانه الخليفة محمد الصغير بن عبد الرحمان* و هو ربّما ما ورّث الشيخ عبر أخواله
(لا سيّما خاله المكّي بن عزرز) الموقف المبدئي من الاستعمار و طروحات مبشريه…     و على الرغم من تلقيه تعليما تقليديا وهو السائد عصرئذ إلاّ أنه قد تأثّر في شبابه بأفكار روّاد الإصلاح في تونس و في المشرق العربي و لعلّ أبرزهم أستاذه الشيخ سالم بوحاجب , و في سن التاسعة و العشرين أصدر مجلّة "السعادة العظمى" و هي أوّل مجلّة تصدر بتونس باللغة العربية         و سرعان ما وقع إيقافها بطلب من هيئة النظارة العلمية بجامع الزيتونة قدّمته للحكومة في الغرض بعد صدور واحد        و عشرون عددا منها و ذلك لما نشر فيها من أفكار مختلفة عن السائد في الأوساط المحافظة و لنسجها على منوال مجلّة "المنار" التي أسسها رائد الإصلاح محمد رشيد رضا . و قد ورد في مذكّرة صادرة عن المراقبة السياسية الأهليّة التابعة للكتابة العامة للحكومة التونسية في 17 مارس 1919( و هي أشبه ما يكون بتقرير استخباري عن الشيخ ) ما يلي:
و في سنة 1904 قام بمحاولة غير موفقة تماما في الصحافة بإصداره جريدة عربية مرة كل شهرين عنوانها "السعادة العظمى" اقترح فيها – متبنيا أفكار مجلة "المنار"  في تأويل تعاليم الإسلام تأويلا حرّا . و قد أزعجت ميوله الدينية علماء الجامع الأعظم بتونس فسعوا إلى تعطيل الجريدة المومإ إليها و التي لم تعمّر من ناحيتها طويلا.**
من هنا نستجلي الجانب التنويري في الميولات الفكريّة المبكّرة للشيخ          و الذي قرنها في ما بعد بحس تحرري ضمّنه في عديد البحوث و المحاضرات , و قد كان تصوّره للحريّة جدّ متقدّم مقارنة بعصره حيث يشدّد في محاضرة ألقاها سنة 1917 عند حضوره تدشين مسجد للجنود المسلمين في برلين على أنّ الحريّة ركن من بين ثلاثة حدّدها لتقدّم الأمم فيقول:
المبدأ الثالث: منح الناس الحرية المطلقة حتى يتمتعوا بحقوقهم الشرعية    و حتى يسلك كلّ فرد الطريق الذي يدلّه عليه ضميره و هذه النظرة هي امتداد لمفهوم الحرية كما بسطه في محاضرته التي ألقاها في نادي قدماء الصادقية سنة 1906 تحت عنوان " الحرية في الإسلام" .
و في مقدّمته للكتاب الذي أصدره سنة 1948 تعريفا بالقضيّة التونسية في الشرق        و الذي يحمل عنوان:
"تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي"
يكشف عن تعلّقه بأسباب التقدّم و الاستنارة فيقول متحدّثا عما فعله الاستعمار بالشعب التونسي :
…كما اغتصبت منه موارد الثروة و أقفلت في وجهه سبل الحضارة و الرقيّ      و منعته من الاستنارة بنور العلم و المدنيّة…
ثم يواصل مبرزا إيمانه بالرأي العام الدولي الذي بدأ يتشكل غداة الحرب العالمية الثانية معتقدا في وجود منصفين و أصحاب ضمائر و إنسانيين عبر كل الأمم موجها إليهم النداء قائلا :
إنّنا نضع هذه الحقائق أمام العالم المتمدّن عسى أن ينتبه ضميره و يشعر بمسؤوليّته خصوصا الدول التي قطعت على نفسها وعودا بذلك و قالت عن الحرب الأولى          و الثانية أنها حرب الحريّة و الدفاع عن حقوق الإنسان…
و قد كان إيمانه بالتعليم كرافعة لنهضة الأمم عميقا جدّا حيث أراده لكل التونسيين مسويا في ذلك بين الجنسين فعرض في الكتاب المذكور لحالة التعليم تحت الاحتلال قائلا   و مدعّما قوله بالأرقام:
عدد البنين و البنات الذين هم في سن الدراسة من التونسيين 973700. عدد البنين     و البنات الذين يزاولون الدراسة في مختلف الفصول     الأقسام 71921. و بإجراء عملية بسيطة يتّضح أنّ الباقي هو
901779 وهو عدد أبنائنا و بناتنا الذين لا يجدون مدرسة يأوون إليها فهم يجوبون الشوارع ضحية الجهل يتلقون دروس الإجرام و انحطاط الأخلاق ليصبحوا بعد ذلك سوسا ينخر جسم هذا المجتمع الذي يحاربه الاستعمار بالفقر و الجهل و كفى بها معاول للهدم و التحطيم..
لقد كان هاجس الإصلاح قرينا بهاجس التحرر و التقدم في فكر الشيخ فنراه إلى حدّ ما يتجاوز شروط عصره و ضوابط مجتمعه و الوسط الثقافي و الديني الذي يتحرك فيه فنجده يتكلم بلغة استنهاضية في عديد المواطن    و يستعمل ملفوظا معجميا حداثيا إلى حد كبير كالحرية و الديمقراطية  و التمدن و الرقي  و الاستنارة   و حقوق الإنسان و حرية الصحافة و السيادة الوطنية …بل و تعجب من دقة تصويره لحالة الشعب التونسي بحس لبرالي هو مطلب متجدد إلى اليوم فيقول في نفس الكتاب:
و حيث أن التونسيين قد حرموا في بلادهم من الحريات الأوّلية حريات التفكير و النشر  و القول و الاجتماع و التجول حتّى أن الخمس و ستين سنة التي مرّت على الحماية قضى منها التونسيون أكثر من عشرين سنة تحت الحكم العسكري العرفي و الباقي تحت رقابة البوليس.
إنّ هذا التعلق بالحريات في شكلها الكوني لينبع من فكر مستنير عكس ما وقع ترويجه من طرف البعض متهمين الشيخ بالتحجّر و التزمّت و الرجعيّة     و ما إلى ذلك من الأوصاف الشعاراتيّة غير المنصفة سندهم في ذلك ردوده على كل من علي عبد الرازق و طه حسين    و هي الردود التي اتخذت وقودا في معركة سياسية أكثر منها فكريّة لأن الشيخ –حسب رأيي المتواضع- ربّما قد دخل تلك المعركة لا بدافع التعصّب              و الانغلاق الدّيني   و العقائدي بقدر ما دخلها بدوافع اعتقاده بالطابع السياسي لما كتبه عبد الرازق و حسين و انطلاقا من تعلق الشيخ بوحدة المسلمين و انحيازه للخلافة العثمانية و مقته للمستعمر الفرنسي الجاثم على صدر بلاده فقد حسب- مثل غيره- ما كتبه عبد الرازق و طه حسين امتدادا لمساعي الغرب الحثيثة إلى تصفية الخلافة  و تمزيق وحدة المسلمين و خدمة ثقافة الاستعمار الفرنسي الذي كان طه حسين ابن أمزجته النقديّة التشكيكيّة …
قد لا يكون استنتاج الشيخ صحيحا و لكن تلقّي مثل تلك الأفكار السياسية                و الأدبية الجريئة في مثل ذلك المناخ الصدامي بين حضارة غربية ناهضة                  و حضارة عربية إسلاميّة متراجعة لا يمكن أن يفسّر خارج سياقه التعبوي بين الفريقين خصوصا إذا كان إطار ذلك الصراع دينيا بحتا و لم يكن في مساحة مفتوحة معززة بمؤسسات لبراليّة راسخة فقد كان علي عبد الرازق      و طه حسين أزهريان       و هو ما يتناساه بعض الحداثيين مغلبين الطابع الإيديولوجي على الطابع الدقيق للانتسابات الفكرية…فالمعركة كانت أصلا تدور داخل المؤسسة الدينية أو بالكاد على تخومها القريبة و لم يكن الشيخ الخضر بن الحسين غريبا على دائرة الصراع و لا متطفلا عليه حتى يجرّم بمقاييس النخب الراهنة ففي حالة ردّه على الشيخ علي عبد الرازق لا ننسى أنّ الشيخ كان قاضيا متضلّعا في العلوم الشرعيّة مدركا لطبيعة الحكم في الإسلام و لم يكن مجرّد أزهريّ حملته الغيرة على الدّين مثلما نرى التكفيريين اليوم أما في حالة طه حسين فالذي يغيب على الكثيرين أنّ الشيخ كان من علماء اللغة العربيّة   
 و آدابها حيث درّسها كأستاذ بالمدرسة الصادقية كما درّس الأدب و الإنشاء العربيين في الجمعية الخلدونية سنة 1908 و كان محاضرا و مسامرا أدبيا في نادي جمعية قدماء الصادقية حيث ألقى فيها محاضرة سنة 1909 بعنوان "حياة اللغة العربية" كما أنه اختير عضوا عاملا غداة إقامته بدمشق في إحدى لجان المجمع العلمي العربي الذي تأسس أواسط 1919 كما توّج نبوغه اللغوي بتعيينه سنة 1933 عضوا في مجمع اللغة العربية الذي أنشئ في القاهرة سنة 1932 و الأهم من كل ذلك أن خلفيّة احتياره ضمن هيئة كبار العلماء في الأزهر هو رسالته العلميّة عن "القياس في اللغة العربيّة" …حيث أنه أيضا لم يكن متطفلا أو متهافتا في ردّه على طه حسين حول الشعر الجاهلي و لكنه ردّ من موقع العالم العارف المتضلّع في اللغة و الآداب العربيّة فضلا عن تمتعه بملكة الشعر حفظا         و إنتاجا.
لقد كان لمواقف الشيخ الإصلاحية و التحرّرية تبعات كبيرة على سلامته الشخصيّة فقد كان موضع تتبّع و ملاحقة من طرف السلطات الاستعماريّة التي صنّفته خطرا على مشروعها في عموم المغرب العربي فهو لم يكن رغم هدوء طبعه شخصا مكتفيا بنضاله الثقافي فيما يكتبه من مقالات و ما يلقيه من محاضرات بل كان رجلا ميدانيا يسافر    و يحرّض و يبعث المنتديات       و يؤسس الصحف و يخالط السياسيين بل ربّما قد استغرق الشأن الوطني التحرّري أغلب أنشطته فنراه يهاجر إلى الشرق سنة 1912 هربا من أوضاع بلاده المستعمرة و بعد عودة قصيرة إلى تونس ثم رجعة إلى الشام اتهم سنة 1916 بالتآمر في عهد أحمد جمال باشا المعروف بالسفاح و سجن أكثر من ستة أشهر و حوكم أمام مجلس عسكري بالإعدام و لكن وقعت تبرئته          و إطلاقه .
كما قامت السلطات الفرنسية بتونس بمصادرة أملاكه في 20جوان 1917 بتهمة التحريض على مقاومة فرنسا ..ثم هرب سنة 1920 من ملاحقة السلطات الفرنسية في سوريا عقب معركة ميسلون و لجأ إلى مصر حيث أسس سنة 1924 "جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا" إلى جانب نخبة من الجزائريين و المغاربة و الليبيين و في سنة 1944 أسس صحبة مجموعة من أبناء المغرب العربي ما عرف ب"جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية" التي انضم إليها عدد من مناضلي الأحزاب المغاربية و من بينهم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1945 و سرعان ما انسلخ عنها .
هذه ملامح شخصيّة وطنية فذّة كان لها الفضل في خدمة القضيّة الوطنية إبان عهد الاحتلال نستقرأ في سيرتها الذاتية المستعجلة نموذجا للمثقف الميداني الذي كرّس حياته لحريّة  وطنه و شعبه فنستذكره في خمسينية رحيله بالدعوة إلى إماطة اللثام عن تراثه الفقهي و الأدبي و السياسي لنصحح مواقفنا من أعلامنا فننصفهم إمّا قبولا برسالتهم أو تقديرا لاجتهادهم و إن اختلفنا معهم .







هناك تعليق واحد:

  1. شكرا على هذا المجهود القيم .وارجو الاطلاع على مواقف بعض علماء الزيتونة وعلى رأسهم العلامة الطاهر
    بن عاشور _ رحمهم الله جميعا_ في الدفاع على الشيخ الجليل الخضر بن الحسين.و ذلك في مجلة السعادة العظمى...

    ردحذف