إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 20 فبراير 2020

كتّاب من نفطة: المرحوم مصطفى عزوز


أدب مصطفى عزوز عموما و الموجه للطفل خصوصا:
 الخصائص و المميّزات و القضايا
خالد العقبي
ارتبط  الأدب العربي الحديث في تونس قبل و بعد الاستقلال  بالقضايا الكبرى للمجتمع في سيرورته   و تطوره و تحقيق كينونته الجديدة  كمجتمع طامح للتحرر من الاستعمار و التبعية متطلع إلى التنمية   و الحداثة و التقدّم  و انحصر هاجس النخبة أو يكاد في بناء الدولة الوطنية و بالتالي بناء المواطن  الفاعل و تحديد ملامحه الحضارية . و كان أبرز ما ميّز أدب  تلك المرحلة هو الطبيعة  الرسالية لمضامينه و احتوائه على جرعات  مرتفعة من التبشير و التحفيز و إلى حدّ  ما التحريض على الفعل   و العمل و المبادرة. لعل رواية "السد" للمرحوم محمود المسعدي أبرز عنوان  لهذا التوجّه التحرري  المؤمن و المبشر بقدرات الإنسان  التونسي و بضرورة تفجيرها و تحديها لكل العراقيل التي تعيق التحاق الوطن بركب الحضارة و التقدم و تحقيق الرخاء و السلم الأهلي.
 كان أدب المسعدي أدب فرد و إبداع ذات مفردة  لكنّ ظاهرة المدرسة الأدبيّة الجامعة لنفس القيم  التحررية هي ظاهرة جريديّة بامتياز  و هو ما يستدعي البحث و التحرّي  عن السرّ  وراء  احتواء جهة صغيرة و نائية  و شبه منعزلة  لطاقات إبداعيّة كبيرة   طبعت الأدب الوطني و العربي  بطابع خاص، فأبو القاسم الشابي و مصطفى خريّف و منوّر صمادح و البشير خريّف و الميداني بن صالح  و مصطفى عزوز و غيرهم كثير ،  علامات فارقة في تاريخ الأدب العربي في تونس و المغرب العربي تركت بصمات  مميّزة طبعت الذائقة الأدبية التونسية  و لا تزال بطابع جوهره الوطن و ما يعلي شأن الوطن  و ما يصلح شأن المواطن. و كما اتجه  كتاب  تلك المرحلة إلى الكهول و خاطبوا الراشدين في أغراض شتّى اتجهت ثلة منهم إلى الطفل باعتباره رجل أو امرأة المستقبل إيمانا منهم بأن  صياغة المجتمع الجديد ، مجتمع التمدن المبني على المعرفة  و الرقي العرفاني و الاعتزاز بالهوية الوطنية يمر حتما عبر أدب جيّد للطفل يغرس فيه تلك القيم و المعاني و كان المرحوم المربي  مصطفى عزوز  رائدا من رواد هذا الخيار  و حالة متميّزة من حالاته نعتز بأن نعرض لتجربته في هذه الورقة المختصرة التي لا توفيه حقه .
فبماذا تميّز أدب مصطفى عزوز؟  و ما هي القضايا التي تصدّى لها شعرا و نثرا ؟؟
مميّزات أدب الطفل عامّة :
يعرّف الدكتور  هادي نعمان الهيتي أدب الطفل في كتابه القيّم "ثقافة الأطفال" كما يلي :" ...و على هذا  فإن أدب  الأطفال  هو مجموعة الانتاجات الأدبية المقدمة للأطفال  التي تراعي  خصائصهم            و حاجاتهم  و مستويات نموهم  أي انه في معناه العام  يشمل كل ما يقدم للأطفال في طفولتهم من مواد تجسد المعاني و الأفكار و المشاعر..."(1) و يقول أيضا في نفس السياق:"  و لأدب  الأطفال دور ثقافي  حيث إنه يقود  إلى إكساب الأطفال القيم  و الاتجاهات  و اللغة  و عناصر الثقافة الأخرى  إضافة إلى  ما له  من دور معرفي من خلال  قدرته على تنمية عمليات الطفل المعرفية المتمثلة بالتفكير  و التخيل و التذكر. (2)
و نفهم من هذا أنّ لأدب الطفل خصائص ترتبط من ناحية بالطبيعة النشوئية للطفل في مساعدته على بناء الشخصيّة و هيكلة المعارف و صقل الملكات  و من ناحية ثانية  بالطبيعة الثقافية  للطفل في تشكيل معالم هويّته الثقافية بنقل القيم الاجتماعية و المهارات التواصلية و صياغة الذائقة الفنية لديه        و تزويده بمسطرة القيم الأخلاقيّة المثاليّة السائدة و المنشودة .
غير أن أغلب من كتبوا للطفل قد أجمعوا على أن ذلك ليس  بالسهل المتاح و لا هو بالهيّن المباح حيث يذكر  الدكتور محمد المنسي قنديل (روائي مصري و كاتب للأطفال)  قصّة تعليق احد كبار الكتاب بعد إعلامه باعتزامه كتابة القصص للأطفال :" لا احد يقوم  بمثل هذا الاختيار الخاطئ في بداية طريقه ، لماذا تحرم نفسك من استخدام الأدوات المتاحة لأي كاتب ، أولها أنك لن تستطيع أن تستخدم مستويات اللغة المختلفة ، و لن تكون لك الحرية في الكتابة في العديد من الموضوعات المحرمة، كالحب          و الجنس و الموت و كلها مادة الحياة ثم إنك ستبتعد رغما عنك عن الواقع لتغرق في عوالم من الوهم و الخيال ، أضف إلى كل هذا أنك تذهب بقدميك إلى  قارئ صامت لن يعطيك رأيه و لن يحفظ حتى اسمك ..."(3) و من خلال هذه النصيحة الواقعية الجافة نستطيع أن نحدد الخصائص الأساسيّة  لأدب الطفل:
·       أحاديّة المستوى اللغوي
·       محدوديّة المضامين و الأغراض
·       الإغراق في التخييل
·       الطبيعة الصامتة للمتلقي
·       الكتابة للطفل بعقليّة الكهل دائما
فهل تثني مثل هذه الخصائص كتّاب الأدب عن التوجّه للطفل و مخاطبته و بناء أواصر التواصل  الفنّي و الإبداعي معه ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)و(2) هادي نعمان الهيتي "ثقافة الأطفال" ص155/156 "سلسلة عالم المعرفة الكويتية"
(3) د.محمد المنسي قنديل(مشكلات الكتابة للطفل العربي) "سلسلة كتاب العربي/العدد 50 "ص31 (ثقافة الطفل العربي)

لقد برّر أغلب كتاب أدب الطفل اشتغالهم على هذه المرحلة العمريّة بأهميّة الأدب في بناء شخصيّة الطفل و كأنّ الدور التعليمي و التربوي لأدب الطفل هو الهاجس الأزلي لهذا اللون الأدبي  و لا يزال هذا الدور هو الطاغي حيث يستبطن أغلب الكتاب توجههم بالكتابة إلى جمهور التلاميذ و ليس إلى جمهور الأطفال؟
لعل هذا ما سيفضي بنا للحديث عن تجربة  المرحوم مصطفى عزوز  الأدبيّة من مدخل المربّي .
خصائص أدب مصطفى عزوز:
لقد كتب المرحوم مصطفى عزوز أدبا واقعيا  في مجمله وواقعيّته هي التي  حددت خصائصه الأسلوبيّة و رسمت خريطة أغراضه التربويّة و الاجتماعيّة.
بساطة اللغة و مباشرتها:
فمن حيث اللغة لم تختلف بين النثر و الشعر في بساطتها  و لم تختلف بين ما صيغ للكهول و ما صيغ للأطفال في مباشرتها  و كأنّ أحادية المستوى اللغوي صارت لازمة لأدب  مصطفى عزوز و ربّما يعود ذلك إلى تطبّع الكاتب بضوابط أدب الأطفال فانسحب أيضا على كتابته للكهول، يقول مثلا في  قصيدته عصابة في مستشفى من مجموعته(سهام)
قريبتي تقيم في مستشفى            مريضة من صدرها تعاني
فزرتها للكشف عن أحوالها        و قد سمعت منها ما دهاني
وجدتها محشورة في قاعة          فسيحة الأرجاء و الأركان
و قد حوت من  النسا نماذجا      من سائر الأعمار و الأبدان
و بنفس الأسلوب المبسّط  تقريبا يتحدّث للأطفال عن  العامل البلدي في مجموعته (الحديقة)
تحيّة خالصة                     يا عامل القمامه
فأنت خير عامل               يستوجب احترامه
في الصبح و المساء         و الصيف و الشتاء
تطوف في الأحياء            في ثغرك ابتسامه
               يا عامل القمامة
أمّا في التجربة النثريّة فقد كان مصطفى عزوز واضحا و مباشرا  في خياره اللغوي المبسّط  حيث يتعمّد على خلاف نواميس الكتابة القصصيّة ذكر المنهل  الواقعي الاجتماعي الذي يغترف منه قصصه و شخوصه و قيمه و غاياته من الكتابة   حيث يقول في فاتحة قصّته "البرتقالة" :
قصّتي التي أرويها  ليست من نسيج الخيال و لا هي من مبتدعات الأحداث "المفبركة" التي تحاك في مصانع الكتاّب و القصاصين   بل هي من صميم واقعنا التونسي التي نجد لها كثيرا من الأشباه           و الأمثال فأبطالها.أو على الأصح بطلها مازال حيا يرزق يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و يملأ الجوّ بصخب درّاجته الناريّة التي يسبر عليها أكثر مما يسير على قدميه.
واقعيّة الأغراض و اجتماعيّة القيم:
من ناحية المضامين يتميّز أدب مصطفى عزوز بالواقعيّة و المنزع الاجتماعي المنحاز للطبقات الفقيرة و الوسطى التي ينتمي إليها بحكم الوظيفة و الوسط الاجتماعي الذي يرتبط بتلك الوظيفة  فأغلب البورتريهات التي رسمها شعرا أو نثرا هي  لفئات اجتماعيّة كادحة : المعلّم الكريم و العطوف          و المناضل في الأرياف  و الطفل الفقير المشرّد في قصّة البرتقالة ،  المدرّس في قصيدة من هو ؟ ، الشرطي ،  العامل البلدي (من مجموعته الحديقة) الصامدون ،يا أيها المسجون ، العانس(من مجموعته المسامير و المزامير) الموظف ، أبو السبعة ، عصابة في مستشفى (من مجموعته سهام) كلّ هذه الحالات الاجتماعيّة المستمدّة من الواقع هي المادّة التي تشكّل أعمال مصطفى عزوز  و يشكل انحيازه الأخلاقي لها مدخلا لإصلاح المجتمع و طلب العدل بين مختلف فئاته  لذلك يتضمّن شعره و نثره  دعوات دائمة للعدل و صرخات مستمرّة للتنبيه من مظاهر الخلل الاجتماعي الذي يتفشى في المجتمع وهي أشبه ما تكون بالاحتجاجات المصاغة شعرا:
قصيدة "رسالة مفتوحة" من مجموعته "مسامير و مزامير"
يا رجال البلديّة
يا أباة الضيم يا أهل الحميّه
مرحبا أهلا و سهلا
و سلاما و تحية
هذه اللوحات فيها
طلبات منطقية
تقتضي منكم حلولا
في الضحى قبل العشية
الرجا أن تقرؤوها
بتأن و رويّة



و اسمعوا  صرخته في وجه فقير يضاعف فقره بكثرة الإنجاب في قصيدته "أبو السبعة" من مجموعته (سهام)
هل في دماغك عقل ؟ قلت منفعلا             لم أستطع مسك أعصابي و أقوالي
فكيف تنجب سبعا ؟ هل جننت أخي؟             تصرّف أخرق من صنع جهّال
أنجبتهم هكذا في غير ما نظر                   ترمي بهم للخلا كالأرنب الجالي؟
و انتبهوا لنقده اللاذع لبعض الانحرافات السلوكيّة  في قصيدته "لا بالتعرّي نرتقي ؟؟" من مجموعته (سهام):
كم من صبايا و اللقا        يذكي صبابات و حب
لا شيء يخفي عورة     يقضي الحيا أن تحتجب
ما ثم إلا  سترة            في حجم  أوراق العنب
فقلت قم يا صاحبي            خير لنا أن ننسحب
الحسّ القومي ، هاجس و مبدأ:
تفاعل المرحوم مصطفى عزوز  مع قضايا أمّته العربيّة  و عبّر بصدق و حماس عمّا يعانيه العرب من واقع التشرذم و الهوان و تكالب الأمم عليهم  خاصّة في بداية عقد التسعينيات و يبدو أن غزو العراق و سقوطه في براثن الاستعمار و الفوضى قد أثر فيه تأثيرا  بالغا  وهو ما ضمّنه في مجموعته "سهام" شعرا  ناقدا ثائرا رافضا و محتجا على هذه الأوضاع و قد تناولت ستّ قصائد هذا الحال وهي (سقط القناع/مجلس الكيل و الوزن/عشرون  ثم ثمانية/مأساة الصومال/يا قادة الوطن العربي/مجمع الأمم "المتخذة")
و لنأخذ مثلا مقطعا مؤثرا من قصيدته"سقط القناع" تأثرا  بحادثة قصف ملجأ العامريّة في بغداد :
يا أيّها  النازي اقترفت نذالة           و أتيت جرما ما أتاه سواك
دمرت بالنار  المبيدة ملجأ          يحوي النساء و صبية تتباكى
ماذا جنى أطفالنا  و نساؤنا           حتّى يلاقوا بطشك الفتاك ؟
أبدا تضيع دماؤهم مهدورة            يوم اللقاء يكون يوم جزاك
لما عجزت عن الوصول لجيشنا     تلقى رجومك هاهنا و هناك

الحسّ الدّيني و الهويّة الروحيّة هاجس المربّي و المصلح:
يقول المرحوم في  تقديمه لمجموعته الحديقة ما يلي : "...فقد توخيت في هذه المجموعة بعض  المقطوعات  الشعرية ذات الطابع الديني و غايتي من ذلك تكريس العقيدة الاسلامية و غرس روح الإيمان بالله في نفوس الناشئة" ، و هذا الخيار هو استكمال و تتويج للخيار الإصلاحي في تجربة مصطفى عزوز حيث يعتقد أن البناء الروحي  و الإيماني  لازمة من لوازم الإصلاح الاجتماعي        و بناء الأجيال بعيدا تلك القيم الدينية  و عدم تزويدها بمسطرة قيم روحية صحيحة و ثابتة ما هو إلا حرث في الماء كما يقال مع التأكيد على  إعلاء صفات الرحمة و العدل و الاستنارة التي يتصف بها الخالق ، فلتسمعوا لهذا الابتهال الرائع في مجموعته "الحديقة":
إلاهي أنت مولانا           رحيما واهبا خيرا
فإن كانت خطايانا       تفوق العد و الحصرا
فأنت العفو و اللطف
 و منك الصفح و العطف
مزايا لست أحصيها      و نور الحق في قولك
عطايا أنت مسديها     و كل الخير من فضلك
فوفقنا إلى ذكرك
و ألهمنا إلى شكرك
إلى التوحيد مسعانا       إلى التوفيق و اليمن
و عين الله ترعانا         كفى بالله من عون
و أنت الله سبحانك
فأدركنا بإحسانك
إليك الكف قد مدّت     رجاك القلب و الروح
إذا الأبواب قد سدّت    فباب الله مفتوح
كريم ماله حدّ
عظيم ماله ندّ


خاتمة:
هذه قراءة متعجّلة لتجربة غنية و رائدة في الكتابة الشعريّة  لمرب فاضل و مناضل  نعتذر عن  اقتضابها على أمل أن تتوفر المناسبات الأخرى لنسلّط أضواء أسطع عليها ، و ما أحصيناه من خصائص و ما حددناه من أغراض ما هي إلا مدخل  لمزيد الكشف و التنقيب في إضمارات الشاعر اللامتناهية  فقد اكتشف شخصيا البعد الموسيقى لشاعرنا و ملازمة العود له في العمل و خارجه و هو ما يحيل إلى  بحث آخر أكثر ثراء...
لقد جمع شاعرنا بين غايات متعددة في تجربته فكانت التربية و الإصلاح و الترفيه و النقد و الإيقاظ الأخلاقي و الديني  و الاحتجاج و الرفض و التبشير غايات نذر الشاعر حياته الأدبيّة لها فساهم في بناء جيل  متوازن مشبع بكل تلك القيم التي تغنى بها الشاعر مساهم بفعالية في بناء الوطن  متجذّر في تربة البذل و العطاء و ما أحوجنا اليوم أن نعيد بذر تلك القيم في أجيالنا الراهنة التي تعاني الفراغ القيمي و المثال الأخلاقي و إلى حد كبير الحسّ الوطني و المسؤوليّة المجتمعيّة.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق