إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 24 أكتوبر 2020

 


من أجل عيد "للإنسانية النقية"

خالد العقبي

 

وضعت الرسوم الكاريكاتورية الاستفزازية المسيئة للرسول الكريم(ص) العلاقات العربية/الإسلامية /الأوروبية  في دائرة منغلقة من الاحتقان و التوتر  الذي لا يخدم الدعوات المتعقلة للحوار بين الحضارات و الأديان و التواصل التفاعلي بين مختلف الثقافات على قاعدة الاعتراف المتبادل بالآخر   و حق الاختلاف عنه ..لقد كانت تلك الرسوم تهجّما مجانيا على  شخصية الرسول (ص) خارج كل أطر اللياقة  و الاحترام  و لقد أصاب  الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عندما قال في معرض تعليقه على أزمة الرسوم : "أن حريّة الصحافة و التعبير  ليست رخصة مفتوحة  و إنما هي تاريخ طويل من الحريّة المسؤولة "  حيث أن تلك الرسوم لم تحمل  أيّ رأي  يمكن أن يناقش , فقط تشويه  لشخصيّة فذّة  شهد لها كبار مفكري و أدباء و حكماء الغرب بالفرادة  و التميّز الإنساني فما بالك بمن يعتقد في نبوّة تلك الشخصيّة و يعتبر إقراره بتلك النبوّة شرطا لإيمانه الديني بل  لا يستقيم إيمانه  إلاّ باعتقاده في كل  الرسل الكرام ؟؟

غير أن الرد الحضاري  على هذه الاستفزازات  لا يجب  أن يترك  للانفعالات المنفلتة و غير المحسوبة  التي قد تقلب  الصّورة  لتؤكد  الخلفية  التي أريد  للرسوم  أن ترسخها  حول  همجية         و دموية  و فوضوية  العرب و المسلمين  فتلقى المسؤولية  على عاتق المثقفين  كي يبرزوا  الصورة المشرقة  للنبيّ الكريم  و للدين الحنيف في أبعاده الحضارية بعيدا عن التعصب و العدائية  على الأقل  بنفس الطريقة التي تناول بها كبار المفكرين الغربيين المنصفين شخصيّة محمد عليه السلام .

من ذلك مثلا الموقف المتميّز للشاعر و الفيلسوف الألماني الكبير "يوهان فولفغانغ فون غوته" (1749/1832)  الذي قدّر شخصية الرسول محمد(ص) حق قدرها و استلهم من رسالته الخالدة الكثير من أفكاره الإنسانية و الصوفية المتناثرة في دواوينه و أشعاره  و كان إعجابه به  من منطلق إنساني بحت  ساعده في بلورة  نزعته  الروحية  المتصوّفة  و المتسامية  التي كان يتبناها  طائفة من المفكرين الغربيين تساوقا مع نزعة الأنسنة التحررية التي رافقت عصر الأنوار  فلم يعقه في استلهام تلك القيم الشرقية الإسلامية و النبوية تحديدا  الإرث الصراعي  بين العالمين المسيحي  و الإسلامي  فكانت الغلبة  للنظرة  الإنسانية في رؤيته للرسول (ص) على الإرث الخلافي  بين الحضارتين  دليلا على الموضوعية  و اتساع الأفق  الشيء الذي  يبدو غائبا  عن الساحة  الغربية اليوم  تحت تأثير  الإستنفار  اليميني  المحافظ  في عديد الدول الغربية  و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية          و بتحريض  من الدوائر الصهيونية  المتنفذة إعلاميا  في الغرب .

ولذلك نعدم اليوم  أصواتا   نزيهة  ذات وزن و تأثير مثل "غوته"  الذي طفحت دواوينه  بتمجيد الشرق  و الحضارة العربية الإسلامية  و امتلأت بالاستشهادات  العميقة المعاني  من المأثورات  الإسلامية     و الآيات القرآنية  حتى أن الفيلسوف هيغل  اعتبر "الديوان الشرقي الغربي" لغوته بمثابة تحوّل الشاعر  إلى الشعر الفلسفي بفعل تلك الروح الشرقية / الإسلامية  ,  و هو محق لأن توجه الشاعر الصوفي  الإشراقي جعله يجد توأمه  الروحي  في حافظ الشيرازي  الذي ألهبت أشعاره  خيال غوته  و جعلته  يقع تحت  تأثير  الديانة  الإسلامية  و الشعر و الصوفية الشرقيين * على حد قول  الباحث الألماني  "فولفغانغ غونتر ليرش" , و لقد أبرز  ما لمقولة  الحقيقة المحمدية  من مركزية  في الخطاب  الصوفي  من خلال  كمّ المقاطع  الشعرية  المتعلقة  بشخص الرسول (ص)  و التي افتتحها بقصيدته الرائعة  التي نظمها  في ربيع  1772 عندما كان في  الثالثة و العشرين من عمره  و بعد أن درس  ما وصلت إليه  يده  من أدبيات  عن حياة محمد  و تعاليمه  الإسلامية  و كان هدفه  من ذلك  أن ينظم  دراما عن حياة محمد  و قد شرع  بنظم هذه القصيدة  بأسلوب  مناجاة  و حديث شعري يتبادله  علي و فاطمة  كما تحدث  غوته  موضحا ذلك  في ديوانه " خيال وواقع"  و لكنه  بعد ذلك  جعلها قصيدة واحدة  بعنوان " أغنية محمد" ** و من أجمل ما تضمنته  تلك القصيدة قوله :

و بخطوة قائد ثابتة

يجرّ معه مصادر أخوّته

و تحت وطأة قدمه

تنبت في الوادي زهور

و تحي في أنفاسه مروج

و لكن لا يصده  واد ظليل

و لا زهور, إذ هي تطوّق ركبته

و تتملّق له بعيون حبيبة

 

و لم يكن تقدير غوته للرسول(ص) إلا من تقديره للقرآن الكريم الذي رأى فيه كتابا مقدسا سيستمر تأثيره إلى الأبد في هداية الإنسانية إلى طريق الخير  فنراه يكتب بإعجاب بالغ عن القرآن و الرسول الكريم قائلا:

شاهدت بدهشة و سرور

ريشة طاووس في القرآن

فمرحبا بك في هذا الموقع المقدس

يا أثمن كنز على الأرض

فيك و في نجوم السماء

تدرك عظمة الله في الأمور الصغيرة

فهو ينظر إلى العوالم

و عينه متركّزة هنا

لقد ذهب الكثيرون إلى الاعتقاد بأن شاعر الألمان الأكبر معتنق للإسلام من فرط استلهامه للقيم الإسلامية  و إجلاله للرسول (ص) و للقرآن الكريم  حتى أنه قال:

من الحماقة أن كلا في وضعه

يطري رأيه الخاص

فإذ أن الإسلام يعني الاستسلام لله

فكلنا نحيا و نموت في الإسلام

هكذا تجلّت النزعة المتسامحة للإسلام لشاعر عظيم مثل غوته نبذ التعصب و الانغلاق الذي يخيّم  على العالمين المسيحي و الإسلامي و اعتبر المحبّة بين البشر هي العمق الحقيقي لكل دين  و لكل عقيدة فأين نحن من هذه الروح السامية ؟ و أين الغرب تحديدا من هذا الموقف النبيل ؟ و لماذا هذه الردة في المجتمعات الحديثة ؟  التي يفترض بها تشبعها بقيم الحداثة  و العلمنة التي و إن فصلت بين الشأن الديني و الشأن الدنيوي إلا أنها شدّدت على احترام المعتقدات و الأديان ؟

لقد دعا غوته على إثر مشاركته في صلاة في مدينة "فايمر" أقامها  جنود من المسلمين  القادمين مع الجيش الروسي الذي قاتل ضد نابليون , إلى "عيد للإنسانية النقية "  تتوحد فيه كل الأديان  على جوهر إنساني واحد يعلى فيه الإنسان كخليفة لله  و تزول فيه ضغائن العداوات البدائية بين الشرق    و الغرب , فلتكن دعوة غوته هذه حيّة الآن و بدل أن نتقاذف بالرسوم المبتذلة و القنابل المدمرة  و الأجساد المفخخة لنتقاذف بالصلوات الصادقة و الأدعية المخلصة  أن يسود السلام بين البشر و أن يزول مكر الأشرار من تجار الحروب و مصاصي العرق و الدماء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

*كتاب صادر عن إذاعة صوت ألمانيا تحت عنوان "غوته": العبقرية العالمية.

** مرتضى الشيخ حسين /الشاعر الألماني غوته و تأثره بشخصية النبي محمد  و تعاليم الإسلام

مجلة "آفاق عربية" العراقية /العدد 11 لشهر تموز 1976.