إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 18 أبريل 2020

القصة الثانية من القصتين الثانيتين ضمن مسابقة كتابة القصة حول كورونا لليافعين/ حلا عراربة





وقع في زمن "الكورونا"


   من كان يظن؟... استفهام تبادر الى الأذهان. كل بطريقته وكل حسب درجة وعيه وفهمه لما نمر به.
   ان "لو" التي تعمل عمل الشيطان لا مكان لها هنا فلا أحد مذنب في هذه القضية ولكن "من كان يظن؟" استفهام احتل كل المساحات الممكنة وغير الممكنة.
   فمن كان يظن أن روتيننا اليومي الذي طالما تبرمنا وشكونا منه يصبح النعيم الذي نترجاه؟ ومن كان يظن أن وظائفنا التي تقينا الحاجة وتحفظ كرامتنا تصبح تريضا بعد ان كنا ننجزها مع شعور مسبق بالنصب والتعب؟ ومن كان يظن أن مقاعد الدراسة التي ملها مريدوها وتحينوا الفرص للتهرب منها تصبح أمنية مستحيلة في ظل هذه الظروف؟
    آه... نسيت مفارقة أخرى عجيبة غريبة أو لنقل من المضحكات المبكيات: فمن كان يظن أن الأعمال اليومية التي تسير على هامش حياتنا تصبح بين ليلة وضحاها مركز اهتمام كل فرد على مدار الساعة؟
   في بلدتي "نفطة" الجميع يعرف بعضهم بعضا مترابطون في نسيج مجتمعي غريب فبالرغم من الخلافات التي تنشب هنا وهناك بين هذا وذاك نساء ورجالا واطفالا الا أنهم حين الملمات يتناسون صراعاتهم ويتكاتفون في لحمة يصعب ان لم يكن يستحيل اختراقها.
   تدور الأحاديث عادة حول التمور وموسم " الذكار" وموسم الجني وسبل التصدير ... الى غير ذلك الا أنه مؤخرا لم يعد شغلهم الشاغل، لقد احتل أمر جلل حير أذهانهم وفرض نفسه على جلساتهم وما يتخللها من أحاديث، كل حوار يدور بين اثنين أو أكثر.
   هذه أوهذا، هذه،لا ... لا  بل هذا "الكورونا" وقد أضفت الألف واللام لأنه أصبح اسما شائعا غنيا عن التعريف شهرته عالمية فكل الشعوب تشخص اليه بأنظارها.
   بدأ الأمر في قارة بعيدة جدا مع عرق مختلف جدا وسبقته الينا سمعته سيئة الذكر. هذا الفيروس الذي أصبح بين ليلة وضحاها قاتلا متسلسلا مطلوب للمحاكمة صدر بحقه حكم مسبق بالاعدام ولكنه يحسن التهرب، كلما اقتربنا منه ينسل من بين أيدينا، يتخفى.
   في المنازل في الشوارع في المؤسسات المختلفة يتحدث الناس عن فيروس "كورونا" القاتل، الذي تفشى في الصين ليصبح وباء وجائحة عالمية، تركزت الأحاديث حول منبعه وحول الأمراض التي يتسبب فيها والأعراض التي تفضح وجوده.
   وتناولت مواقع التواصل الاجتماعي مسألة أخطر بكثير اذ أكد المختصون أن لا لقاح له ولا دواء قادر على القضاء عليه. وتكونت في بلدتي مجموعة من المتطوعين المدنيين هاجسهم حماية الناس وتوعيتهم وتقديم بعض الخدمات لهم.
    قامت هذه المجموعة بتوعية المتساكنين وتعريفهم الى الاجراءات الازم اتخاذها تحسبا لحلوله بيننا ومدت البعض منا بمواد مطهرة وقد نصت على ضرورة التعقيم الكامل لكل ما تصل اليه أيدينا وخاصة غسل الوجه واليدين بصورة متكررة خلال النهار وحتى جزءا من الليل وألزمت الجميع بضرورة الابتعاد عن التجمعات خارج المنازل.
   أعلن بعد ذلك حجر صحي عام فأغلقت أبواب المنازل واختفت جموع المتنزهين والمتسوقين، ألغيت الزيارات الاجتماعية والسوق الأسبوعية وفرغت المدارس من التلاميذ...
   خلت الشوارع وعم الهدوء والسكون المطبق المنطقة وأجبر الناس أنفسهم على البقاء في بيوتهم ووقع منح حق الخروج لفرد واحد من كل أسرة ولا يكون ذلك الا للضرورة القصوى.
    شعر الجميع بالاحباط، هل يجبرنا كائن مجهري على سجن أنفسنا وحصر نشاطاتنا والغاء حياتنا؟ لقد خضعت دول عظمى لارادته وانهارت اقتصاديات قوية وتناقلت وسائل الاعلام أنباء الارواح التي يحصدها يوميا وعمت حالة من الفزع النفوس وبتنا في انتظار كارثة تحل بنا لا محالة.
   في خظم هذه الظروف الاستثنائية كان البعض يجابه هذا العدو بالسخرية منه والتقليل من شأنه فكثرت التعليقات على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وكانت الطرفة جزءا لا يتجزأ من سلاحنا ضد هذا الفيروس القاتل فمعنوياتنا مرتفعة والحمد لله خاصة وأن المجتمع المدني المصغر الخاص ببلدتي سارع، من خلال جمع التبرعات، الى تعزيز المستشفى المحلي والعاملين فيه بكل ما كان ينقص من المعدات المتخصصة في مقاومة الأوبئة المعدية والفتاكة...كما سارعت مجموعة المتطوعين الى جانب الجمعيات الخيرية المحلية الى تخزين المؤن التي ولا بد ستتحقق الحاجة اليها لاحقا، ووقع كذلك في الابان ربط الصلة بينهم وبين السلط المحلية والوطنية وخاصة ممثلي الجهة سياسيا من أجل البقاء على بينة من كل جديد مستجد.
   وجلسنا ننتظر.فنحن الآن أمام قضية أمن صحي فاما حياة واما ممات والأمر لم يعد يحتمل السخرية والاستهزاء بعد أن تناهى الى مسامعنا خبر وجود حالات حاملة للفيروس في بعض الجهات القريبة والبعيدة من البلاد التونسية.
   تمر الايام متشابهة قلت الحركة فيها شيئا فشيئا في الشوارع لتترك المجال لحياة البيوت بأجوائها الحميمية وأسرارها التي تحميها الجدران السميكة، الى أن جاء يوم استفاق فيه الجميع على خبر لم يعرفوا كيف يتعاطون معه: لقد عاد "طاهر" ابن الجهة الذي أضناه الاغتراب في ايطاليا، عاد بعد غياب طال سنوات وسنوات، وبالرغم وصول اخباره أولا بأول الى أسرته الا أن الشوق وجد قلوبا عشش فيها وسكن. مر الحدث مرور الكرام بالنسبة الى من كان بعيدا عن حدث العودة هذا، أما الجيران والأحباب فقد اجتمعوا ونصبت القدور بسرعة وذبحت الخراف وتفننت النسوة في تحضير الأكلات الشعبية فرحا بالعائد واحتفالا باللقاء. أما هو فقد غير ثيابه وتوجه صحبة ثلة من صحبه نحو غابة قريبة لاحياء الصلات القديمة وتحيين ألفة تعود الى عهد الطفولة والشباب.
   في حدود منتصف الليل شقت الفضاء أصوات صفارات الانذار فصعدت الجموع الى أسطح المنازل للتثبت والتقصي، يا لهول ما وقع، لقد تغافل أو تناسى الجميع عن قصد أو عن غير قصد ما تمر به البلاد من حضر صحي، واجراءات الطوارئ الحازمة، وما يتطلبه الوضع من حيطة للحفاظ على سلامة الجميع. لقد تناهى الى أعوان الصحة والسلط الأمنية والجهات المدنية المتطوعة خبر عودة طاهر وراعهم ما تأكد لديهم من مشاهد المصافحة والتقبيل والبكاء الناجم عن الفرح بلم الشمل ناهيك عن المسامرة والمآدب التي أقيمت من أجل الترحيب به ،فجاء الجميع، وفي لمح البصر طوقت مجموعة كبيرة من الجنود منزل أسرة المغترب وحيه ومنعوا دخول أو خروج أي فرد منن واليه . ثم وقع تدوين اسم كل من اقترب من طاهر وحصر الأماكن التي تجول فيها. أخذوه الى الحجر الصحي ووضع الجميع قيد المراقبة.
   غادرت السيارات في طابور طويل يصور بأضوائه وصوت صفاراته هول المشهد الحاضر ويضع في الأذهان صورا لاحتمالات كثيرة ممكنة في القادم من الأيام. انتظر الجميع نتائج التحاليل المخبرية وعلى رؤوسهم الطير وحصل ما لم يكن في الحسبان لقد كان الحبيب العائد حاملا للفيروس وما تهاونه وضربه لعرض الحائط بكل النصائح الموجهة اليه الا لانه لم تظهر عليه الأعراض بعد فلا حرارة مرتفعة ولا ألم ولا سعال. وللأسف الشديد كان قد نقل العدوى الى مجموعة موسعة من أفراد عائلته وجيرانه.
   خيم الحزن على الاهالي، ان العدو الذي حسبوا له ألف حساب وأوصدوا في وجهه الأبواب وجد سبيلا اليهم فبات فيهم يهدد كيانهم وطمأنينة قلوبهم وحبهم للحياة. تواصلت الأيام السوداء، كما سماها البعض لاحقا، فتوفي من كان متقدما في السن ذو المناعة الضعيفة، وخلف وراءه حزنا وحيرة:ترى من سيكون التالي؟ ولمذا؟
   بعد ذلك بحوالي نصف شهر أو أكثر سمعنا أن من شفي عاد الى منزله وأن الفيروس لم يعد له وجود في بلدتنا ولمزيد الحيطة وقع غلق كل المنافذ وتثبيت حراسة مشددة طيلة الليل والنهار حتى لا نغدر ثانية. تعالت على اثر ذلك الاصوات مطالبة بالعودة الى حياتنا العادية التي الفناها في الماضي ولكن الخطر مازال محدقا بالجميع ولازالت كل القوى مستنفرة فلا مجال لقطع الحجر الصحي في الوقت الراهن، ومع ذلك انتشرت الموجات الايجابية بين سكان البلدة وعادت اليهم الطمأنينة التي افتقدوها لايام طويلة وبات المار ،بسرعة نحو مقصده، يسمع أصوات الضحكات خلف الأبواب الموصدة ويتنسم روائح الأطعمة التي لا تعترف بانغلاق الأبواب وارتفاع الجدران.
   الزمن: السادسة مساء...الشمس مازالت لم تمل الى الغروب بعد، فالطقس ربيعي. رائحة عطر فاخر انتشرت في الهواء وتسللت الى أنفي، صوت طرقات حادة على باب أحد المنازل المجاورة. فتحت النافذة المطلة من عل على الشارع لاستطلع الأمر. عشرات النوافذ شرعت وأطلت منها الرؤوس: انه عائد آخر من وراء البحار. وامتدت يدي مع من امتدت من الأيادي في لهفة وسرعة الى الهواتف....

                                                                   حلا عراربة : نفطة في 04 أفريل 2020


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق