إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 2 مارس 2020

كتّاب من نفطة" المرحوم التابعي الأخضر


في ذكرى  فقيد القصة التونسية التابعي الأخضر(*)

 خالد العقبي




كان لقائي الأول بالأستاذ التابعي الأخضر قبل زهاء العشر سنوات في دار الثقافة " مصطفى خريف" بنفطة التي  تحتضن جمعنا الكريم و كان ذلك عندما بعثنا ناد للأدب  ضمّني وقتها مع نخبة من هواة هذا الفن  النبيل بنفطة حيث كنا و لا نزال نلتف حول الأخ الأكبر المبدع أحمد لفهيري    و يرعانا أيّامها  بكل محبة الأخ  فرحات عليو مدير الدّار...
جاءنا  مدّتها  الأستاذ التابعي  ضيفا من العاصمة يشع جلالا يجعلك للوهلة الأولى تحس أنّ  الماثل أمامك شخص ذو شأن و مكانة. و تبينا فيما  بعد أن ذلك الجلال كان من مصدر عرفاني فالأستاذ أفنى  عمره  في تعليم الأجيال      و ها هو  يكلله بإمتاع القراء  بما  يصوغه  من أعمال قصصية  رائعة  أهم  معالمها  الصدق و الأمانة            و الانحياز الشعبي .
نعم  كان سي  التابعي  كما صرنا  نناديه أمينا على كل كلمة  يتفوه بها  بيننا  يحاول  بما في نية ابن البلد أن  ينفعنا و يعطينا  خلاصة الرأي  حول المواضيع التي  نناقشها  في رحاب النادي خصوصا إذا  ما تعلق  الأمر بجانب  القصة  القصيرة و السرد عموما ،     و كنا  نستمع بكل  شغف  كما لو كنا  في حضرة إمام.
ناقشنا  مدتها  أغلب  قصص مجموعته الأولى "وشم على ذراع مقطوعة"
فحدثنا عن ظروف كتابة قصصها  و ملابساتها و عما غمض لدينا  من مضامينها       و مراميها ، و حدثنا  بأسى و حرقة  عن ذلك الفنان الذي رسم صورة الغلاف الشاب  الفلسطيني الذي استشهد  خلال الغارة  الصهيونية  على مقر القيادة الفلسطينية في "حمام الشاطئ"...كان في كل ذلك أبا يقص على  أبنائه شيئا من تجاربه  و همومه       و قد وقفنا  أيامها على  تواضع الرجل و بساطته و عمق التزامه الأدبي عندما دعتنا دار الثقافة  بمدينة دقاش للقاء أدبي  فعرضنا على  الرجل مرافقتنا ليلبي الدعوة بكل سرور  و يرافقنا    و يشاركنا مصاعب الرحلة التي عانيناها خلال  عودتنا لما انعدمت وسائل النقل ليلا و بقينا على  قارعة الطريق ننتظر الفرج و يتذكر سي التابعي  صديقا له  بمركز الشرطة  فيتصل به و يتدخل ليوفر لنا  نقلا إلى نفطة        و نعود إلى ديارنا  في ساعة  متأخرة من الليل...و قد خشينا وقتها أن يغضب الضيف أو يظهر امتعاضه ولكننا تبيّنا  أننا نحن من كان الضيف و هو المضيف الذي يحرص على أن يكون خروجنا في سبيل الكلمة خروجا تتوفر لنا فيه  أسباب الراحة و الأمان ...و كان ليلتها يطمئننا و نحن اليافعين القلقين و يردد في آذاننا أنّ "الأدب  تضحية أو لا يكون"  تفاعلا مع كنا نردده تندرا  من قولة المسعدي " الأدب مأساة أو لا  يكون ".
تلك كانت  بعض من صور استحضرتها عن لقائي الأوّل بالأستاذ التابعي الأخضر ليتجدد لقائي به مرة أخرى   صدفة في  العاصمة بينما كنت أعبر  إلى مقهى باريس بشارع بورقيبة  فيتلقفني بكل  حرارة و حفاوة  و يسألني بشوق و شغف عن نفطة       و أهلها و عن جماعة النادي و أنشطته و مشاريعه    و يدعوني بكل امتنان لأنظم  إلى مجلس أصدقائه أعضاء نادي القصة  الذين يجتمعون صباح الأحد بمقهى "الروتوند" فشرفني لأوّل مرة  بلقاء رموز القصة التونسية الذين أذكر منهم  رضوان الكوني           و أحمد ممو     و محمد الهادي بن صالح...، و كانت جلسة ممتعة حصلت لي  منها فائدة كبيرة أهم ما فيها التعرف على أجواء  الجلسات الأدبية التي تجمع المحترفين في فن الكتابة القصصية و أستمتع بنقاشاتهم و مقارباتهم و مشاريعهم                          و سجالاتهم  إلاّ أن  ظروف انصرافي  للعمل بالتعليم الابتدائي و ما يقتضيه ذلك من التنقل بين الأرياف و لظروف أخرى متنوّعة انقطعت عني أخبار سي التابعي   إلى حدود صدور  مجموعته الجديدة  "بقية كلام" الشيء الذي  تزامن لحسن الحظ مع إعادة  تنشيط نادي الأدب بتشجيع من الأخ نور الدين ماطر  مدير دار الثقافة  "مصطفى خريف" و كان الرجل  و هو في إقامته بالعاصمة  شغوفا بأخبار النادي  في نفطة فبادر حالما سمع بعودة النشاط  إلى تشجيعنا  بإرساله مجموعة من نسخ  مجموعته إلى دار الثقافة  ثم شرفنا  بحضوره بيننا  في نفطة و في رحاب نادينا  حيث أن سي التابعي يعشق شتاء نفطة  المشمس و الخالي من الرطوبة  اعتبارا لمعاناته من بعض الصعوبات الصحية المتصلة بالجهاز التنفسي  فكان دائم الالتفاف في برنسه "الوبري"  و الالتقاء بالأحباب في مقهى "الأحباب" أو مقهى "الجوج" بسوق
المدينة العتيقة  . و تجدد  لقائي به مرة  أخرى لأجد شيخا شابا بأتم معنى الكلمة        و يفيض حيوية  كأوّل لقاء لي به قبل عقد من الزمان ، وجدت سي التابعي الموجه       و المرشد و المستمع رحب الصدر و على وجهه كل علامات الغبطة و  الأمل في الجيل الصاعد من الكتاب  رغم ما بدأ المرض يظهره من علامات الإنهاك على حركته و صوته فحدثني عن أمله في أن تترعرع نخلته التي صدّر حديثه عنها في مجموعته الجديدة عسى أن يطيل الله في عمره      و يمتعه بالصحة ليأكل من رطبها و يستظل   تحت ظلها  مع أبنائه أعضاء نادي الأدب بدار الثقافة مصطفى خريف.
  

جدليات السرد عند التابعي الأخضر(مدينة الأسرار نموذجا)

ظلّت عجينة التابعي الأخضر السردية  تتخمّر  زمنا طويلا  حتّى إذا استوت   خرجت للنور أعمالا  ناضجة  ، عميقة ، متماسكة  المبنى   و مستفزة في أغلبها  حيث عاش الرجل زمنين أدبيين مختلفين :  زمن حقيقي معيش  و ممارس و زمن  افتراضي مكتوب و متخيّل. زمن للاستيعاب و التشرّب     و التأمّل  و زمن  للقول و الإفصاح و الإبداع  فنجده قد قرأ  و خالط الأدباء      و درّس و ناضل  ثم كتب  و ألّف  فكان نصّه  مقنعا ، مفعما  بالإثارة  مثيرا للجدل.
و على الرغم من الطابع الوجودي  القلق  لكتاباته فإنّ التابعي الأخضر  طارح أسئلة جيّد  و مثير قضايا فطن  و محرّك اهتمامات واع .
يقول الأستاذ أحمد ممّو  في تقديمه لمجموعة "مدينة الأسرار":
"  و من خلال  هذه الأبعاد النفسية  الفكرية  تبدو  القصة  لدى التابعي الأخضر  (وجودية الملامح) تقوم على (التغريب) و (المفارقة) كما تظهر لدى  كافكا" 
غير أنّ  هذا النزوع إلى إبراز التناقضات و المفارقات الاجتماعية و الوجودية               و حصرها في الفقر الظاهر ، لم يقع تناوله من مدخل جدلي يبرز مواطن التناقض      و خلفياته و توظيفاته الفنيّة؟
و رغم أن  الطابع التقليدي  للصراع الاجتماعي هو الذي حُرص على  إبرازه إلاّ أن  ارتباط الاجتماعي بالذاتي أو الموضوعي بالنفسي لم يحض بالتتبع العميق و العلمي        و اكتفي بما يوحي إليه مجرد رصد قصص التابعي الأخضر للظواهر الاجتماعية  الصراعية.
يقول  الأستاذ أحمد ممو في نفس التقديم: " أمّا الاهتمام المتعلق بالبعد الاجتماعي في قصص هذه المجموعة فيبرز تمسّك الكاتب بالبحث عن أسباب الفقر و الحيف الاجتماعي و تتبع مؤشرات ذلك من خلال العلاقات الاجتماعية التي تنتهي بالشخوص المعنيين بذلك الوضع إلى الضيق بالعيش و محاولة الثورة على الضغوط التي يخضعون لها"
قابل التابعي الأخضر بين الفقر و التوازن الاجتماعي و لم يقابله بالغنى حصريا حيث كانت غايته تجريم الفقر كعاهة اجتماعية و ليس كوضع ذاتي يتصل بفرد أو جماعة فقد قابل بين الفقر و الرخاء و بين الفقر و الجهل و بين الفقر و كثرة الإنجاب  و بين الفقر و العجز و بين الفقر و الاحتكار و بين الفقر          و العدل ، و بهذا اقترب التابعي الأخضر بطريقة استشرافية من المفاهيم الحديثة للفقر باعتباره استبعادا اجتماعيا يقترب أكثر من مفهوم التهميش لفئات اجتماعية في مقابل التمكين لفئات أخرى و هو ما يظهر في قصص التابعي الأخضر تناولا لشخصيات في سياق انتمائها لمجموعات مهمّشة         و ليس في سياق مظلوميتها كضحايا للحيف الاجتماعي ؟


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) مداخلة  بمناسبة تكريم الأستاذ التابعي الأخضر بدار الثقافة مصطفى خريّف بنفطة/ نفطة في 18 مارس 1995

















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق